استيقظت باكرا على صباح هادئ جميل , اسمع زقزقة العصافير على شرفتي الصغيرة تشدو أغانيها فرحا بيوم جديد
هدوء راق لي ,لا يشوبه سوى صراخ وشقاوة إخوتي الصغار الذين استيقظوا هم أيضا ,سمعت نداء أمي علي تطلب مني أن أجهز نفسي للمدرسة ,جهزت نفسي بكل فرح وكل نشاط لا أدري لم لدي شعور غريب كنت متلهفة للذهاب للمدرسة حملت حقيبتي وقبلت أمي واخوتي الصغار ,وتلاقيت بصديقاتي وسرنا للمدرسة.
جلست في صفي وقد بدأت الحصص اليومية ,في الحصة الرابعة كان الدرس مملا جدا والمعلمة تشعرني في النعاس
فأشحت بوجهي نحو نافذة الصف ,رأيت حمامتين على سلك كهربائي أعجبني منظرهما كانا يحلقان ويعودان بسعادة
من ثم أجهد نفسي في التفكير بما يدور بينهما يا ترى وأخذت على نفسي أسبح في فلكهما محاولة أن أعرف ما الحوار الذي يدور بينهما , شعرت كأني دخيلة عليهما لم يمضي سوى وقت قصير حتى طارتا بفزع لم أفهم خوفهما ,نظرت نحو الأعلىنحو السماء وكان الظلام.
كم مضى من الوقت ؟ لا أعلم أفقت وفتحت عيني إذ أنا مغطاة بالركام وحولي كل شيء مظلم , أزحت ما أستطعت عني من حطام نظرت يمنة ويسرة لا أميز شيء سوى أشلاء وأطراف متناثرة في كل مكان .
أعتقدت بأني أحلم فلطمت وجهي وأقول لنفسي أفيقي ما بالك ماذا حدث ؟كنت مصدومة لم أفق من صدمتي حتى سمعت صوتا بين الركام يقول لي لا تخافي هاتي يدك ,نظرت نحو الصوت إذ بنور يتوهج من وجه شاب ابتسم لي ابتسامة تخفي الكثير . ساعدني وحملني طاقم الاسعاف إلى المستشفى فقدت وعيي مرة أخرى ولم أفق إلا بعد عدة ساعات , سألني الأطباء عن أسمي فلم أجب ,كنت مذهولة من منظر الناس حولي القتلى والجرحى في كل مكان والكل في حالة فوضى وحزن وغضب .فهمت بأننا تعرضنا لهجمة متوحشة من عدو لا فرق لديه بين شيخ وطفل وامرأة وأعزل
كنا كلنا تحت النار مجردين من كل القوة إلا من الايمان بالله.
تساءلت أين أبي وأمي وعائلتي ؟ هل يبحثون عني ؟ هل علموا بما حدث لي ؟هل هم بخير يا ترى؟
بينما أنا في حيرتي , رأيت ذاك الوجه الباسم في الممر ينظر إلي جريت نحوه أشكره فقال لي اصبري وابتسم ابتسامته
التي تزيد من حيرتي , كيف يبتسم بينما الكل يبكي ؟ كيف استطاع أن يحضن كل آلامي وجراحي وكل همي بابتسامة
لا أجد لها تفسير ؟لم استطع شكره فقد اختفى ولم أجد له أثرا في المستشفى.
كنت متلهفة للعودة إلى حضن أمي فأضمها وأرشف من ثغرها ذاك الحنان السرمدي . كنت اريد العودة لأرى وجه أبي
يضحك لي ويعايرني لجبني وخوفي . كنت متلهفة لأضم أخوتي الصغار وألاعبهم وأقص لهم الحكايا قبل النوم.
لهفتي هذه جعلتني أخرج من المستشفى وأجري في الشارع كالمجنونة وحولي الناس تجري تبحث عن أحبتها
تبكي فجيعتها وتشكو الخوف والدمار.
وأخيرا وصلت حارتي التي تغيرت بعض ملامحها فالدخان قد ملأ المكان والبيوت المدمرة متناثرة الكيان في كل مكان
ولكن كنت أبحث عن الأمان في بيتي في حضن عائلتي,اقتربت من منزلي الناس متجمهرة في كل مكان في الحارة
اندفعت احدى جاراتنا تهلل نحوي بسرعة ,ضمتني وبكت وبكت وبكت حتى أبكتني ثم قالت لي لا تخافي اصبري
كلنا أهلك .نظرت إليها في دهشة , ارتعشت قدماي وزادت دقات قلبي تساءلت ماذا قصدت تلك المرأة في كلامها , لا بد أنها خائفة مثلنا جميعا من شدة القصف , أقنعت نفسي بأنه لا يوجد شيء وتمالكت أعصابي ونظرت أليها وابتسمت وتركتها ومضيت مباشرة نحو منزلي.نظرت ..دهشت..صعقت..أخرستني الصدمة..خارت قواي وما عادت تحملني قدماي ....رأيت أمامي أكوام من الحطام والركام هنا كان بيتي ..هنا كان أهلي ..أين هم ؟أين أحبابي؟ ,الكل ينظر إلي وليس بوسعه سوى النحيب والبكاءصرخت بأعلى صوتي ناديت على أحبابي على أمي على أبي ,لم أجد الرد .
معقول ما حدث ! لا أصدق تجمدت العبرات في عيني ,جلست فوق الركام لم أغادر حاول الناس ابعادي قلت لهم سأبقى في بيتي سأبحث عن أهلي تحت الركام,فكرت قررت أنه لا فائدة من البكاء لن أبكي سأصبر هكذا فهمت سر الابتسامة الصبر وقت الشدة نعم سأصبر ,كان قد كان الليل في منتصفه والبرد قاس لكن السماء الممطرة حمم العدوان لم تجعلني أشعر بالبرد بالنيران تحرق داخلي وتشعل قلبي . بقيت فوق الركام فغفوت وكأن الله أنزل سكينته علي وشعرت برعاية الله تلفني .
استيقظت صباحا على صوت الجرافات القادمة لتزيل الركام وللبحث عن الجثث كان مؤكدا أن لا أجدا من العائلة قد نجى من تلك المجزرة النكراء جلست في انتظار انتشال أشلاء عائلتي من تحت الركام مرت ساعة وكأنها دهر بأكمله .تعالت الصرخات هاقد ظهرت أسرعت لألقي نظرة الوداع , رأيتها إنها يد ناعمة وجسد ممزق ورأس قد غابت ملامحه ,لكني عرفتها هذه يد أمي الحنونة بكيت ..أسرعت فقبلتها وقبلتها وضممتها بين ضلوعي أخذوها مني نزعوا ضلوعي معها أخذوها وأخذوا نور عيني وضياء قلبي معهم ودعتها بحرقة القلب وصبر الجبال.
وعاد الانتظار من التالي ؟يا إلهي هل هذه دمى أم.....؟ يا إلهي اخوتي الصغار واحدا تلو الآخر كدمى مخشبة محترقة
صدمت من هول المنظر . بكيت ..انهرت ..تاه فكري وغبت عن الوعي .
ايقظني المسعفون والجيران حولي قالوا لي اصبري اصبري تعالت الصرخات ولكن هذه المرة كبر الناس وهللوا مستبشرين .تسللت السعادة إلى قلبي بلا خجل من يا ترى؟
هرعت نحوهم إنه أبي يحضن أخي الأصغر بين ذراعيه هل هو حي ؟ يالرحمة ربي لم يصب أخي سوى بإصابات طفيفة
أما أبي فأخذوه على عجل للمستشفى ولم أعلم ما حالته.كنت أجري خلفهم نحو المستشفى وأنا أحمد ربي بأن أبقى لي
حضنا يدفئني ونورا يهديني في سبيلي.
هرعت للمستشفى لأرى أبي قالول لي بأنه في العمليات اتنظرت ساعات ثم أخرجوه ولكن يالحزني وألمي قد بترت قدماه
ألقيت بنفسي عليه وضممته وبكيت وبكيت كنت أشعر بأنفاسه تضمني تهدأني تمسح دمعتي . حملت أخي الصغير بين ذراعي تعهدت له بأنني لن أتخلى عنه وسأرعاه في عيني .
مضت أيام الحرب بكل ألم وحزن رأيت فيها الاشلاء والدمار القهر والظلم ودعت أغلى ما عندي وسرت نحو خيمة تضمني أنا وأبي وأخي,تجرعنا الحزن بكل كاساته وصبرنا وتأملنا من الله أن ينصرنا نعم والله ناصرنا بقدرته .
تعلمت من تلك الابتسامة حضن حزني واحتوائه تعلمت الصبر تعلمت الابتسام في وجه الموت تعلمت أن لا أبكي وانني سأنشر أنشودة الفرح والصمود والتحدي رغم الحزن رغم الموت وأنني سأواجه نهاري كل يوم بابتسامة عريضة .